بقلم/ شريف رمزي
"وأما
الذى هو أجير وليس راعياً الذى ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف
ويهرب.. والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالى بالخراف" (يو 10 : 12 ،
13)
قد
يحدث أن يهرب إنسان، فيكون هروبه سبباً فى هلاكه، ولكن ماذا لو كان هروب إنسان
سيعوق وصول رسالة الخلاص إلى الأخرين؟
لا
شك أن عمل الرب سيتوقف حتى يتحرك شخص آخر بدافع الغيرة المقدسة فيحمل الرسالة، أو
يعود هذا الخادم الهارب يوماً ما ليمارس عمله.
يونان النبى.. أشهر هارب عرفه التاريخ
المفروض
أن الكرازة هى عمله الأساسى، ولكن يبدو أن يونان كان مبهورًا بمركزه كنبى وصاحب
كلمة نافذة..
بهرته
القشرة الخارجية للخدمة فلما جاءته الدعوة ليدخل إلى العمق هرب!
"فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب" (يونان 1 : 3)
غيرة
يونان على نفسه كانت أقوى بكثير من غيرته على النفوس المحتاجة للخدمة، فالمهم أن
يظل محتفظًا بكرامته وبهيبته كنبى وكارز.
كان
يونان فى حاجة إلى الحب ليتمكن من أداء رسالته.. الحب لله وللقريب.. حباً حقيقاً
قادرًا على البذل والعطاء بلا حدود..
كذلك
كان فى حاجة إلى الإحساس بالمسئولية تجاه النفوس البعيدة عن الله، فيشعر أن العمل
هو مسئوليته شخصـيًا وأنه كـراعٍ مُكلف من الله بخـدمة هذه النفوس..
ولكن
ما فعله يونان يتماشى تماماً مع قول الكتاب: "وأما الذى هو أجير وليس
راعياً الذى ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب.. والأجير يهرب
لأنه أجير ولا يبالى بالخراف" (يو 10 : 12 ، 133)
لم
يكن يونان يشعر بالقيمة الحقيقة للعمل الذى أُسند إليه ولا بالتأثير الإيجابى
للخدمة فى حياته، فبادر بالهروب!
هرب
يونان من الخدمة متجاهلاً دعوة الله له، بينما تقدم آخرون إلى الخدمة حتى دون
دعوة..
ومن
هؤلاء "نحميا"، القائد الغيور.
كانت
غيرته على أورشليم عظيمة ومحبته لإخوته تفوق محبته لنفسه، فكان باستمرار يهتم
بالسؤال عنهم ومعرفة أخبارهم، ولما سمع بالحالة السيئة التى وصلوا إليها تأثر
لدرجة أنه بكى.
"فلما
سمعت هذا الكلام جلست وبكيت ونحت أياماً وصمت وصليت" (نح 1 : 4)
كان
قلب نحميا مشحوناً بالعواطف الصادقة تجاه أورشليم وتجاه أخوته، ولكن هذه العواطف
لم تقوده إلى التهور، بل أنه جلس ينتظر حتى يتلمس مشورة الرب بالصلاة والصوم
وإنسحاق القلب..
كانت
ظروف نحميا كأسير يعمل فى خدمة الملك، وبُعده عن أورشليم، وحياته الجديدة فى مجتمع
وثنى تشير إلى صعوبة حمله للرسالة بحيث يبدو خروجه للخدمة مستحيلاً.
ولكن
نحميا -الخادم الشجاع - لم يستسلم للأمر الواقع واثقاً فى يد الله
القوية، فلما سأله الملك عن سبب كآبته، أجاب بغيرته المعهودة: "كيف لا
يكمد وجهى والمدينة بيت مقابر أبائى خراب وأبوابها قد أكلتها النار"
(نح 2 : 3)
إنها
الغيرة المقدسة، تفتح الأبواب المغلقة.. الغيرة المقدسة التى لا تعرف المستحيلات.
كانت
أُمنية نحميا فى مجلس الملك، ومن قبل ذلك فى صلاته أن يخرج إلى الخدمة..
"تُرسلنى
إلى يهوذا إلى مدينة قبور أبائى فأبنيها" (نح 2 : 5)
خرج
نحميا والهدف ماثلاً أمام عينه، فلم ترهبه جسامة الخدمة، بل إنه لم يرهب من أعدائه
الذين تكاثروا حوله ليعوقوا استمرار العمل ومسيرة البناء!
إحساس
نحميا بالمسئولية كان دافعاً قوياً للخروج إلى الخدمة وكانت رسالته: "هلم
فنبنى سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً" (نح 2 : 17)
وما
أن بدأ العمل حتى بدأت التجارب، وبدأ الأعداء المتربصون به فى تدبيرالمؤامرات..
- هزأوابه واحتقروه ( نح 2 : 19 )
- أرسلواله رسائل تهديد ( نح 6 : 19 )
- غضبواجداً، وتأمروا جميعاً معا أن يأتوا ويحاربوه ( نح 4 : 8 )
- أرسلواإلى نحميا يدعونه للتشاور معهم بهدف إيذائه ( نح 6 : 2 )
وفى
كل ذلك كان نحميا ثابتاً، وفى قوة إله السماء واثقاً، وبقيمة العمل والدور الذى
يلعبه شاعراً، فكان رده على أعداؤه حازماً وقاطعاً: "إنى
أنا عامل عملاً عظيماً لا أقدر أن أنزل، لماذا يبطل العمل بينما أتركه وأنزل
إليكما " (نح 6 : 3)
العجيب
أن نحميا لم يترك العمل حتى عندما نصحه بذلك بعض رجال الدين.. وبدا أن الله نفسه
يأمره بالهروب من الخدمة.. وبدا أن الهروب أمراً مشروعاً لأنه داخل أورشليم نفسها،
بل داخل الهيكل، ولكن النتيجة واحدة، سيتوقف العمل.
كان
التحدى صعباً، والثمن فى حالة البقاء يبدو باهظًا، وصوت الأنبياءالكذبة فى أُذني
نحميا مدويًا: "لأنهم يأتون ليقتلوك، فى الليل يأتون
ليقتلوك" (نح 6 : 10)
عجيب
جداً ثبات نحميا وإصراره على البقاء.. وعجيب بالأكثر إيمانه بالخدمة وإخلاصه للعمل
الذى تطوع لأدائه.. ففى حزم وثقة وثباتٍ جَم وقف يقول: "أرجل مثلي يهرب،
ومن مثلي يدخل الهيكل فيحيا، لا أدخل" (نح 6 : 11)
شتان
ما بين يونان ونحميا..
- يونان دعاه الله للخدمة، وكان الطريق إلى نينوى مفتوحاً أمامه، بينما تقدم نحميا إلى الخدمة متطوعاً بدافع من غيرته، وكانت العقبات كثيرة ومتنوعة، والأعداء متربصون به من كل ناحية.
- مهمة يونان لم تكن تستغرق أكثر من ثلاثة أيام، بينما مهمة نحميا كانت صعبة وتحتاج لأسابيع وشهور.
- خدمة نحميا كانت مليئة بالتنازلات والتضحيات، بينما يونان هرب لأنه لم يكن مستعداً لتقديم أى تنازل.
- نحميا عانى كثيراً فى خدمته من احتقار الأعداء له واستهزائهم به، ومن صعوبة العمل ومشقته، ومع ذلك أصر على البقاء ولم يتراجع، بينما هروب يونان كان سبباً فى كل المتاعب التى تعرض لها أثناء رحلته.
- نحميا بدأ خدمته بالصلاة، ولم يكف عن الصلاة طوال مدة خدمته (نح 1 : 6)، بينما لم يلجأ يونان إلى الصلاة إلا عندما وقع فى ضيق (يونان 2 : 7)
- كان نحميا يترجى فى كل حين نجاح العمل (نح 2 : 20)، وصار يوم إكتمال السور يوما مقدساً وعيداً له ولكل الشعب (نح 8 : 9 ، 10)، بينما يونان حزن لرجوع أهل نينوى وتوبتهم واغتاظ لدرجة جعلته يتمرد على الحياة ويطلب الموت لنفسه (يونان 4 :1 ، 3)
ترى
ماذا سيحدث إذا تخلى كل خادم عن رسالته من أجل الصعوبات التى ستواجهه فى الخدمة؟؟
صحيح
أن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم (مت3 : 9 )، ولكن ليس على حساب
أولاده.
خلاص
نفس الخادم، لا يقل أهمية عن نجاح الخدمة.
والأن
يبقى سؤالاً يتردد.. ماذا لو هرب الكارز؟!
أطلب
إليك يارب
أطلب
إليك أن ترسل فعلة إلى كرمك، فإن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون (مت 9: 37)
حتى
هؤلاء (القليلون) يوجد بينهم من لايصلح للخدمة، ومن ليس أهلاً للرسالة..
كان
يهوذا من بين تلاميذك، ومع ذلك لم يتورع عن خيانتك!
خدامك
يا رب، فى حاجة إلى تغيير يلمس القلب من الداخل.. تغيير فى الفكر، وفى المفاهيم
حتى
يُدرك أولادك قيمة الرسالة، وقيمة حمل الصليب.
___________________________
* عن كتاب "الهروب إلى الله"، بقلم/ شريف رمزي