تَقبيل أيادي الكهنة والجدَل المُصطنع!

بقلم/ شريف رمزي

آثار الطرح الذي طرحه البعض بخصوص مسألة تقبيل أيادي الكهنة، والمطانيات التي يصنعها أفراد الشعب لرُتب الإكليروس، ووصف هذه السلوكيات بالهرطقة، حالة من الجدل سُرعان ما تحولت لعِراك وخصومة بين المؤيدين والمُعارضين على صفحات الفيسبوك..!

والواقع أن ذلك الطرح -وما يتضمنه من إشكاليات- ليس بجديد، فمظاهر تكريم أصحاب الرُتب الكهنوتية لم تكُن يومًا محل إجماع، ففي المسيحية شيَعًا وطوائف لا تعترف من الأساس بالكهنوت الخاص..

فمن جهةٍ يتشبَّث البعض بعبارة "كلنا ملوك وكهنة" (رؤ ١ : ٦)، في فِهمٍ حرفي للأية!، لكن الرفضين لخصوصية الكهنوت والمُنادون بعموميته مُلزمون أدبيًا -واتساقًا مع ذلك الفِهم الحرفي- برفض أى مُلك أرضي..

إذا كُنا كُلنا كهنة "حرفيًا"، فكُلنا ملوك "حرفيًا"، ولا حاجة لنا بعد إلى مَلِك أو رئيس!

أيضًا عبارة "لا تدعو لكم أبًا على الارض" (مت ٢٣ : ٩)، فلا يُمكن أن تُفهم كذلك على إطلاقها، وإلا ما كان لأى مِنا أن يُنادي والده بكلمة "أبي - بابا"!

يقول المُعترِض: [هرطقة تقبيل يد رجل الدين القبطي من عوامل كسر الشخصية القبطية وقبولها للمذلة والخنوع والذمية.. هذه البدعة والهرطقة، والتي هى ضد المسيح، كانت جزء من السلطوية الدينية في الكنيسة القبطية.. ويرافق هذه الهرطقة القبيحة المزمومة هرطقة أخرى تسمى الميطانية لرجل الدين بالذات من الأساقفة.. والبدعة الثالثة هى مناداة الأسقف بكلمة سيدنا، وهى كلمة لا ينبغي ولا يجب أن تقال إلا للسيد المسيح وحده فقط]!

ربما الدافع للاعتراض يكون نابعًا عن حب للكنيسة وانتماء حقيقي لها، وفي كل الأحوال لا ينبغي أن نواجه كل اعتراض بتشنُج وعصبية، ولا بأن نُكيل الشتائم للمُعترض أو بأن ننعَته بالمُهرطِق والمُبتَدِع، وحبذا لو أن المُعترِض نفسه قد اتبع ذات النَهج وحافظ على طرحه بعيدًا عن الشخصنة والذاتية ووصم الأخرين بذات العبارات القاسية..

في رأيي -وهى رسالة للمؤيدين والمُعترضين على السواء، ولنفسي قبل الجميع- لا تجعل من نفسك خِصمًا وحَكمًا، ولا تَرتكِن إلى الاعتقاد بأنك تحتكر الحق الكامل، وتذكَّر أن أحدًا لم يَطلُب مِنك الزَود عن العقيدة ولا الدفاع عن ثوابت الإيمان ولا نجدة المؤمنين في سائر الأمصار.. فإن فعلت ذلك بدافعٍ من الغيرة ومن أجل غاية مُقدسة "مُتطوعًا"، فلتكُن وسيلتك مُقدسة أيضًا، وبلا عنجهية أو تعالي أو استعراض.. لا تُوسوِس لك نفسك أنك "حامي الإيمان" لأنك حتمًا مخدوع.

لن أخوض في أخذٍ ورَد بخصوص "القُبلة" و"الميطانية" وعبارات "سيدنا" و"أبونا"، التي يُحاول البعض إحياء الجدَل القديم حولها، ولن استدعي من الكتاب المُقدس ما يؤيدها ويُبررها.. فالمُحصلة -بحسب ظني- أن هكذا أمور لن تؤثِر في مسيرتنا للخلاص، ففي حدود عِلمي أن أحدًا من رجال الدين لم يقُل يومًا بأن تلك المظاهر هى بوابة المؤمنين لدخول السماء، أللهم إلا إذا كان الاعتراض مُجرد مُقدمة لإنكار الكهنوت المسيحي على وجه العموم!.

لكني أوَد أن ألفِت النظر إلى مظاهر أخرى يتضمنها الطقس الكنسي، ولم يُعيرها المُعترض أى انتباه!

أول ما يطلبه الأب البطريرك أو الأسقف من الكاهن عقب سيامته أن ينحني (يصنع ميطانية) أمام الهيكل ثم أمام الشعب.

في صلاة باكر وهي الصلاة التي تبدأ بها كل صلوات الكنيسة ينحني الكاهن أمام الكهنة الحاضرين والشعب -قبل أن يبدأ الصلاة- وهو يقول "أخطأت سامحوني".

في الهيكل وقبل بدء القداس الإلهي، يرشم الكاهن ملابس الخدمة لنفسه وللشمامسة ثم ينحني أمامهم -البالغين كما الأطفال- قائلًا "أخطأت سامحوني"، ويرُد كل شماس بالمثل قائلًا "أخطأت حاللني".

الكاهن في كل قُداس (بعد تلاوة قانون الإيمان) ينحني أمام كل الشعب -كبارًا وصغارًا- قائلًا: "أخطيت سامحوني".

في خميس العهد كما في عيد الأباء الرسل، يجلس الكاهن على الأرض ليغسل أرجُل أولاده واحدًا فواحدًا، مُتشبهًا بالسيد المسيح له المجد الذي غسل أرجُل تلاميذه.

المسألة إذن من حيث المبدأ لا علاقة لا بالسُلطوية ولا بمَحو الشخصية القبطية ولا بالضعف والذِمية، كما أن انحراف البعض عن جوهر العلاقة الروحية التي نشأت في إطارها تلك المظاهر (القُبلة والميطانية وكلمات التفخيم والاحترام) لا يعني وَصم العلاقة في مُجملها أو تشويه تلك السلوكيات على إطلاقها، فحتى صاحب الاعتراض نفسه -كما أظن- لن يجد غضاضة في الانحناء أمام الرئيس الأمريكي إذا ما جمعهما لقاء، من باب المُجاملة مُخاطبًا إياه Mr. President (سيدي الرئيس).

والمؤسف أن البعض يرفعون شعارات التَحرُر من قيود رجال الدين وما يعتبرونه سُلطوية، بينما هم أنفسهم يجتهدون في تقييدنا بفهمهم الخاص وانطباعاتهم الشخصية، وربما عثراتهم أيضًا.

يا سادة..

جمال كنيستنا يكمُن فى أنها تتشبه فى كل شىء بالسيد المسيح.. تستلهم طقوسها من حياته، ومنه له كل المجد تستمد فضائلها وخصالها النبيلة.. تتزيَن كعروس لتفرح بميلاده، وتحزن وتتألم معه فى ذكرى آلامه، وتتهلل فَرِحةً لقيامته من بين الأموات..

كان مُثلث الرَحمات قداسة البابا شنودة الثالث يجلس فى العيد على كرسيه مُتسربلاً بالمَجد والفَخار، مُتكللاً بتاجٍ كملك تَنحَني أمامه الجِباه، ويقف إجلالاً له الرؤوساء والوزراء والسفراء.. يأسر قلوب ابنائه ومُحبيه حين يُطِل عليهم بتلك الصورة البَهية، فيما يَفتِك الغيظ بخصومه وتنهش الغيرة قلوب حاسديه..

لكن قليلون هُم الذين كانوا يَرون الصورة كاملة..

فالرجل الذى يتسربَل فى العيد بلباس الملوك، هو نفسه الذى يتزر بمنشفة (فى خميس العهد)، ويجلس عند أقدام ابنائه ليغسلها، مُتشبهاً بسيده..

شخصيًا لا يُمكنَني بأى حالٍ أن أُعبر، ولا أجد ما يُسعفني من كلماتٍ لأصِف ذلك الشعور، حين تلامست يداه (تلك التى تحمل الأسرار المقدسة) مع أقدامى التي لطالما سلكت فى دروب الخطية!

كيف يمكنني أن أصِف ذلك الشعور بعدم الاستحقاق الذى انتابني أمام قديس هذا العصر فيما كان ينحني أمام أصغر أولاده وأكثرهم خطية ليغسل قدميَّ وأقدام الجميع؟!

بل بالأحرى كيف أصِف ذلك الاتضاع الفائق للطبيعة، وهو الذى تكلل بتاج الفخر وتوشَح بأرفع الأوسِمة، وجلس على كرسي الكاروز الأول، فيقوم عن كُرسيه ويَتَزِر بمنشفة وينحني إلى الأرض مُتشبهاً بسيده، وهل يتضع إلا من هو فى عِلوٍ لا يُدنى منه!