بقلم/ شريف رمزي
التاريخ الذى درسناه فى مناهجنا الدراسية فى المدارس والجامعات اعتَبر أن
"قاسم أمين" هو أول "مصرى" نادى بحقوق المرأة وبفكرة المساوة
بينها وبين الرجل ولاسيما فى "التعليم" حتى أنه لُقب بــ "مُحرر
المرأة"!
ومع كل التقدير والإحترام والعرفان بالجَميل الذى يُكنه المرء لشخص
"قاسم أمين"، وفكره الذى استقاه من "الغرب"، خاصة وأنه تلقى
تعليمه العالي فى "فرنسا"، لكننى آكاد اُجزم أن التاريخ لم يكن مُنصفاً
تماماً، أو أننا لم نقرأ التاريخ كما يجب أن نقرأه، وذلك لعدة أسباب..
أولاً، لم يكن "قاسم أمين" بحق هو أول من نادى بحقوق المرأة ،
فقد سبقه إلى ذلك بسنوات طويلة البابا القبطى "كيرلس الرابع" البطريرك
110 في سلسلة بابوات الكنيسة المصرية (1854 – 1861)، والذي لم تنحصر جهوده فى مجرد
الدعوة إلى تعليم المرأة، بل إنه اتخذ خطوات عملية سجلها له التاريخ فلُقب بــ "أبو
الإصلاح".
فالبابا كيرلس الرابع هو أول من سنَّ قانوناً يُحدد سن زواج البنت، ومنع
تزويجها أقل من 14 سنة، (فى ذلك العصر كانوا يُزوجون الفتاه فى الحادية عشر من
عمرها)، وبهذا سبق البابا كيرلس عصره، وسبق أيضاً القوانين والتشريعات المدنية بنحو
مائة عام.
وأنشأ البابا كيرلس مجلسًا لحل المشكلات الأسرية الذى يُعد نواة
المجلس الإكليريكي الحالي، واشترط اعتراف العروسان اعترافاً صريحاً وشخصياً أمام
الكاهن بالرضا والموافقة على الزواج قبل إتمامه، كما أنه اشترط أن تمر فترة قبل
الزواج كفرصة يدرس فيها الطرفان بعضهما البعض، فإن إتفقا يُعقد الزواج.
والبابا كيرلس الرابع هو أول من فكر فى تعليم البنات..
كانت رؤية البطريرك القبطي ترتكز على النهوض بالمرأة وتثقيفها وتعليمها والاهتمام
بها، لتكون النواة للنهوض بالمجتمع ككل.
وأنشأ البابا كيرلس مدرسة لتعليم الفتيات تُعد هى الأولى من نوعها في العصر
الحديث، تهتم بتدريس اللغات الأجنبية إلى جانب العلوم والآداب والفنون، فضلاً عن
الشئون المنزلية وأعمال الطبخ والحياكة والتطريز وغيرها, واجتهد فى تدبير كل ما
تحتاج إليه من معدات وأدوات.
وفيما لاقت فكرته لتعليم الفتيات قبولاً من بعض الأهالي، إلا أن الفكرة
اصطدمت برفض الكثيرين أيضاً، حتى أن بعضهم لجأ إلى الوالي محمد سعيد باشا، واشتكوا
له من تصرف البابا، لكن الوالي وقف إلى صف البابا وشجعه.
ورغم قِصر مدة جلوسه على الكرسي البطريركي (6 سنوات و7 أشهر و13 يوماً)،
لكن البابا كيرلس استطاع أن يُحقق نهضة حقيقية فى وقت كان الجهل متفشياً وعقول
الناس مشغولة بالخزعبلات والخرافات، ومنابر التعليم قاصرة على
"الكتاتيب" التي يُديرها "العُرفاء"، وتجلت تلك النهضة فى إنشاء
البابا للعديد من المدارس التي فتحت أبوابها بالمجان أمام البسطاء من أبناء
الأقباط والمسلمين واليهود على حدٍ سواء، بينما كان الانخراط فى مدارس الدولة التي
أنشأها محمد على باشا قاصراً على أبناء الأعيان والوجهاء.
ومن بين المدارس التي أنشأها
البابا كيرلس مدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية سنة 1854، والتي تخرج منها عدداً من
المشاهير من بينهم أربعة من رؤساء الوزراء، هم عبد الخالق ثروت باشا، وبطرس غالي
باشا، وحسين رشدي باشا، ويوسف وهبة باشا، وتقلد عدد كبير من خريجيها مناصب رفيعة
فى الدولة، فأصبح منهم وكلاء لوزارات المالية والداخلية والمعارف، وأيضاً
مُستشارين ومحامين ومؤرخين، والعديد من رجال الفكر والصحافة، فضلاً عن العديد من
الكوادر التي تولت زمام الإدارة فى مصلحة السكك الحديدية وفى البنوك والمتاجر
الكبرى بسبب إتقانهم للغات الأجنبية.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما دونه مؤرخ لبناني مُسلم يدعي "إبراهيم أفندي
الطبيب" فى كتابه "مصباح الساري ونزهة القاري"، حيث كتب:
"في حارة الأقباط مدرسة عظيمة يعلمون فيها اللسان القبطي القديم
والتركي والإيطالياني والفرنساوى والإنكليزي والعربي، وهم يقبلون فيها من جميع
الطوائف وينفقون على التلاميذ الفقراء من مال المدرسة، وهذه بناها البطريرك كيرلس
القبطي وأنفق عليها نحو 600 ألف قرش، وكل ذلك بخلاف ما نعهد فى بلادنا...".
كما وجه البابا كيرلس اهتمامه نحو إنشاء مكتبة تضم عدد كبير من المؤلفات الدينية
والتاريخية النفيسة والنادرة التي كادت أن تُطمس بفعل الإهمال، ولما وجد أن
المدارس التى أنشأها تعتمد على الكتب المخطوطة التي يضعها النساخ وفى كثير من
الأحيان تكون بخط رديء تصعب قراءته، كلف صديقه "عبيد رفلة الرومي" بشراء
مطبعة من إيطاليا، تعتبر هى الثالثة في مصر بعد مطبعة الحملة الفرنسية والمطبعة
الخديوية، وقد استقبلها كهنة وشمامسة الكنيسة بألحان الفرح والسرور التي تُنشد فى
الأعياد والمناسبات الكبيرة.
فهل بعد كل ما ذكرناه يصح أن
يتجاهل التاريخ، أو بالأحرى دارسيه، الجهود التى بذلها "بابا الأقباط"
فى ذلك العصر، والتى فتحت الباب أمام كل من جاء بعده وكانت السراج الذى إستنار به قاسم
أمين ورفاقه؟!.
الأمر الثانى الذى ينبغى ألا يفوتنا، أن "قاسم أمين" لم يكن
مصرياً خالصاً، فأبيه "أمين بك" كان تركياً يعمل ضابطاً فى الجيش،
ومصريته إكتسبها "قاسم" من أمه وليس من أبيه.. وعليه فلا يُعقل أن نبالغ
فى التباهى بفضل "قاسم أمين" على الحركة الفكرية فى المجتمع المصرى
بوصفه مصرياً، فذلك غير دقيق كُلياً..
نُضيف إلى ذلك أن الأفكار التى نادى بها قاسم أمين بشأن المرأة وحقوقها لم
تكن من عندياته -وذلك ليس تقليلاً من شأنه- فجهوده كلها كانت ثمرة الانفتاح على الغرب
ومحاولة لمحاكاة الثقافة الفرنسية التى تشبع بها أثناء دراسته هناك.
وذلك يعود بنا إلى ذات النقطة..
هل من العدل والإنصاف أن نُبالغ فى التباهى والاحتفاء بــ "قاسم
أمين" مع خلفيته التركية وتعليمه "الأفرنجى"، ونتجاهل جهود البابا
القبطى (المصرى الأصل والمولد)؟!..
إنه أمر يدعو فعلاً للعجب..
أم أنه التعصب البغيض قد تغلغل فى بلادنا إلى كل مناحى الحياة، حتى
"التاريخ" نقرأه بأعين معصوبة؟!
لكن ليعلم كل صاحب عقل وليعي
جيداً، أن الأقباط، وكنائسهم، وعقائدهم، وثقافتهم، وآثارهم، وتراثهم، وتاريخهم،
جزء لا يتجزأ من تاريخ هذا البلد، لا يملك أحد أن يمحوه.
فلنقرأ إذن التاريخ، ولكن كما يجب أن نقرأه.