بقلم/ شريف رمزي
في مراحل التغُير التي تطرأ على الشعوب قد يحدث أن تختلط المفاهيم وتتشابك الخيوط للدرجة التي تدفع بالبعض إلى إنكار ما كانوا أشد الناس حماسًا له، وربما الكُفر بقيمٍ ومبادئ كانوا الأكثر إيمانًا بها من غيرهم، دون أن يعتريهم أي شعور بالتناقض!
من المُذهل أنَّ كثيرين أصبحوا اليوم مؤهلون
وبشدة للقبول بأي قيود على الحريات، بل ويزعجهم أي حديث عن حقوق الإنسان.. وهم
مُقتنعين كلّ الاقتناع بأنَّ المخاطر التي تُهدد الوطن تستدعي تلك التضحيات!
لعله من المؤسف حقًا أن تجد من يؤمن بشدة
بفكرة "تحرير الوطن" بمعزلٍ عن "تحرير المواطن"!
ولعل ما تشهده الساحة السياسية في بلادنا
اليوم، سبق وأن اجتازته سابقًا إبان حركة الضباط الأحرار فى 23 يوليو 1952، التي
تقترب ذكراها، والتي لم يتوقف الجدل حول ما إذا كان الوصف الأدق لها هو "ثورة"
أم "انقلاب"!.. جدل لم تحسمه شهادات من داخل قادة الحركة ورموزها الأوائل
أنفسهم، دونوها فى مذكراتهم، ومنهم الراحل "خالد محي الدين"
الذى أكد في كتابه "الآن أتكلم" أنَّ الاجتماع قبل الأخير لـ "لجنة
القيادة" فى 20 يوليو 1952 شهد إجماعًا على أنَّ العملية التي يُخطَط لها هى
عملية "انقلاب"، أي استيلاء على السُلطة.
لكن الدعم الذي حظي به تحرُك الضباط الأحرار،
وتأييد قطاعات واسعة من الشعب والجيش للأهداف التي أعلنوها فى بيانهم الأول، ساهم
في ترسيخ مُصطلح الثورة، الذي مايزال يفرض نفسه إلى وقتنا الحاضر.
لكن تلك الأهداف التي اتخذ منها الضباط
الأحرار غطاءً لتحركهم، ومنها اكتسب وجودهم على رأس السُلطة شرعيته، لم يتحقق
منها شيء لسنوات بعد ذلك، فقد انشغل "مجلس قيادة الثورة"، وهو المُصطلح
الذى حل بديلاً لـ "لجنة القيادة" بعد أن نجحت الحركة فى القبض على مقاليد
الحُكم فى البلاد، بقلاقل وانقسامات داخلية كان عنوانها الرئيسي هو "الصراع
على السُلطة"!.
كانت مسألة عودة "الديمقراطية"
تُشكل محورًا أساسيًا من محاور الاختلاف والشدّ والجذب بين الأطراف المُتصارعة..
وبرزت إلى السطح نظرية جديدة مفادُها "إما
الثورة وإما الديمقراطية"، أمكَن من خلالها تضليل الرأي العام الذي كانت
قطاعات واسعة منه تخشى على مكتسباتها الاجتماعية التي حصلت عليها فى ظل النظام
الجديد، فهانت فى أعينهم كل الانتهاكات التي أصابت الحريات العامة والخاصة فى
مقتل!.
ومع الضغط الشعبي الذي تجلى فى اندلاع مظاهرات
مؤيدة للرئيس "محمد نجيب" الذي كان فى خصومة مستمرة مع مجلس قيادة الثورة
وتنازع مستمر حول الصلاحيات، ومع تصميم بعض القطاعات داخل الجيش وبخاصة فى صفوف
سلاح الفرسان (المدرعات)، على تسليم السُلطة لحكومة مدنية وعودة العسكريين
لثكناتهم، طأطأ قادة يوليو رؤوسهم أمام العاصفة فأصدروا قراراتهم الشهيرة فى 5
مارس 1954، والتى تمحورت حول انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد يُنظم عمل
الأحزاب السياسية ويمهد لنظام حكم مدني ديمقراطي..
وهنا تبرز مجدداً فكرة "إما الثورة وإما
الديمقراطية"، لتعصف بما سبق إقراره!.
وبحسب "أحمد المصري" ضابط
سلاح الفرسان الذي كان في طليعة تنظيم الضباط الأحرار منذ تكوينه، في كتاب
"الضباط الأحرار يتحدثون" لمحمود فوزي، فإن جمال عبد الناصر لم يكن يقصد
بكلمة الديمقراطية التي وضعها ضمن الأهداف الستة للثورة إلَّا الديمقراطية
الاجتماعية فقط، أي محاولة وضع نظام للعدالة الاجتماعية، وليس الحرية السياسية أو
الديمقراطية بمفهومها العام.
وعليه فلا مجال للدهشة أو التشكيك فيما رواه
وأكده عدد من الضباط الأحرار فى شهاداتهم عن تلك الفترة، من تصاعد حدة الصراع على
السلطة إلى الحد الذي دفع بالنظام للبدء فى حملة شرسة لتشويه المُعارضين واتهامهم
بالعمل لصالح قوى الحكم الرجعي ("الفلول" بلغة وقتنا الحاضر)، فدبر
عبد الناصر إضرابًا لعمال النقل وعمال السكة الحديد أنفق عليه مبالغ مالية ضخمة،
ففي حين قدر خالد محي الدين المبلغ الذي مول به إضراب العمال بأربعة آلاف جنيه
(وهو مبلغ كبير بمقاييس ذلك العصر)، فإن أحمد المصري -ضابط سلاح الفرسان- يؤكد أنَّ ما تم إنفاقه فى تنظيم الإضراب يتجاوز ذلك المبلغ بكثير..
واحتشد ما يزيد عن 300 ألف عامل وهم يهتفون
بصوت واحد: "تسقُط الديمقراطية.. تسقُط الحريات"!.
ولم تتوقف محاولات إشاعة الفوضى لزعزعة ثقة
الناس في الديمقراطية عند حد رعاية الدولة لإضرابات العمال، فقد استيقظ سكان
القاهرة ذات يوم على وقع ستة إنفجارات دفعة واحدة، إثنان منها في الجامعة وواحد في
جروبي وآخر في مخزن الصحافة بمحطة سكك حديد مصر..
وتعالت الأصوات بضرورة إحكام قبضة النظام
وفرض الأمن بالقوة وإلَّا سادت الفوضى.
وهنا تجدُر الإشارة إلى شهادة الراحل "خالد
محي الدين" عن تلك الوقائع المؤسفة فى كتابه "الآن أتكلم"، فيروي
أنه فى أعقاب تلك الانفجارات توجه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى منزل جمال
عبد الناصر لمناقشة التداعيات التي يمكن أن تسفر عن تلك الأحداث، فأبلغهم عبد
الناصر أنه هو الذي دبر تلك الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع فى طريق
الديمقراطية والإيحاء بأن الأمن يهتز والفوضى تسود، ويبدو أن ذلك النهج الشيطاني
قد حقق غايته بالقضاء على فكرة الديمقراطية، ومن ثم التفرغ لتصفية الخصوم!
وقد يُدهش البعض حين يعرف أن كُتّاب كبار من
أمثال مصطفى أمين وعلى أمين وغيرهما من كبار مُفكري ذلك العصر، كانوا متحمسين بشدة
لمواقف عبد الناصر فى وقت كان يناور ويصارع فيه من أجل الإطاحة بمحمد نجيب والانفراد
بالسُلطة واقصاء كل المعارضين، فساهموا بالقدر الأكبر فى الترويج لنظرية
"إما... وإما..."!.
شهاد أحمد المصرى - الضباط الأحرار يتحدثون - لمحمود فوزى صـ 343
|
والأن أتكلم - خالد محي الدين صـ 304 |
شهاد أحمد المصرى - الضباط الأحرار يتحدثون - لمحمود فوزى صـ 344 |