بقلم/ شريف رمزي
في
السطورِ القادمة اُقدِّم لك -عزيزي القارئ- واقعًا ملموسًا سبق وعاشته الكنيسة قبل
سنوات في شخص أحد ابنائها مِمَّن نشأوا بعيدًا عنها، وأرجو منك -أيها القارئ
الحبيب- وأنت تتابع هذه السطور، أن تتأمل معي فى الأهميةِ الكُبرى للكنيسة والدور
الذي يلعبه خُدامها، والذي بدونه قد تَضيع نفوس سيحاسبنا الله إن أهملناها.
كما
أرجوا أن تُدّرِك الأهمية العُظمى المُتركّزة في تعليم الطفل من لحظة خروجه من جرن
المعمودية وفي مراحل عمره المختلفة بعد ذلك.
في
أحضان الكنيسة الأم، وفي جوٍ روحانيّ تَشعر معه بأنك في السماء أو أن السماء قد
انتقلت إليك، كُنّا نلتقي كخدام كل يوم أربعاء "مجتمعين بنفس واحدة وروح
واحدة"، لنصلي من أجل أنفسنا - خدمتنا - أصدقائنا - المرضى والمسافرين - والبعيدين
عن المسيح.
لعدَّة شهور كُنّا نصلي من أجلِ شخص ارتد عن الإيمان، وكل ما كنّا نَعرفَه عن هذا الشخص هو اسمه الأول (المكتوب على لوحٍ خشبي -سَبّورة- توضع أمامنا أثناء الصلاة)، أما قصته وتفاصيل هذه القصة فقد وصلتنا عن طريق أ. زكريا نظير، ذلك الخادم الأمين الذي شعر بمسئوليته تجاه هذا الشخص، وكرَّس كل وقتّه وجَهده لمُتابعة هذه الحالة، وبقية التفاصيل عَرَفتَّها من الشابِ نفسه بعد ذلك، والذي أشرُف بصداقته إلى اليوم.
الدخول
إلي مسرح الأحداث:
نشأ
الشاب (.........) في حي شعبي من أبٍ وأُم يَنتمون إلى إحدى طوائف البروتستانت، وبدأ العمل
في سِنٍ مبكرة في ورشة يمتلكها رجل غير مسيحي، وعلى مدار خمسة عشر عامًا كان الشاب
قد فَقَدَ كل صلة له بالكنيسة، وبالمسيح، وبالمسيحية عمومًا.
فخلال
هذه السنين كلها لم يُفكر خادم من الكنيسة في زيارته، ولا أب كاهن في دَعوته،
ولأنه يجهل القراءة والكتابة فقد كان ذلك سببًا آخر حالَ بينه وبين ينبوع المعرفة
الذي هو مصدر الحياة -أعني الكتاب المقدس-.
والأشَرَّ من ذلك أنه قضى كل هذه السنين في بئر
من الظلمات-على حد تعبيره- داخل ورشة لا يَسمَع فيها سوى الآيات والتفاسير
والخُطَب التي تُهاجم المسيحية بعنفٍ وشراسة، بالإضافة إلى صوت الإسلاميين الذين
دأبوا على دعوته للدخول في الإسلام ومُمارسة شعائره، على اعتبار أن انتسابه
للمسيحية من الأصل كان خطأ وقد آن الأوان لتصحيحه!
وفي
الوقتِ الضائع نَما الخبر إلى الكنيسة بأن الشاب المسكين قد بدأ في عمل الاجراءات الرسمية
لإشهار إسلامه وتغيير اسمه، وكان ذلك بترتيبٍ من الله.
ذهب
إليه الأب الكاهن بناء على دعوة تلقاها من والدا الشاب، وعندما قابله شَرع أبونا في
مُعانقته وتقبيله، ولكن يَدا الشاب حالت دون ذلك، إذ رفض هذا العناق بل ومجرد
السلام باليَد، مُرَدِدًا في نفسهِ: ذلك الكافر جاء ليتملقني، ويَرُدّني عن طريق
الحق!، لم تستمر الجلسة طويلاً، وللأسف انتهت دون أي نتائج إيجابية.
ثم
ذهب كاهن أخر لزيارة الشاب واستمرت الزيارة لمدة تزيد عن الساعة والنصف، حاول
أبونا خلالها إقناع الشاب بإجابات مُشبعة حول لاهوت المسيح والتثليث والتوحيد وسلامة
الكتاب المقدس من التحريف، ولكن للأسف كان الشاب كَمَن له "ودن من طين وأخرى
من عجين"، وانصرف أبونا بعد أن فشلَت كل محاولاته في إقناع الشاب بالعدولِ عن
رأيه.
وتكرر
الأمر حينما استعان والدا الشاب بخدامٍ من الكنيسة البروتستانتية التى اعتادوا
الصلاة فيها، فقد كان أحدهم يتكلَّم والشاب مَشغولاً عنه تمامًا، هذا يعظه عن
الإيمان والتوبة والخلاص، وذاك يُتمتِّم بكلمات لم يَسمعها أحد، فلما انتهى الخادم
من حديثه سألوه بماذا يُتمتِّم في سره، فأخبرهم بأنه يتلو آياتً لتَصُدَ عنه
هجماتهم الشيطانية!
حقاً..
لقد تأخرت الكنيسة زماناً هذا مدته عن خدمة هذا الشاب المسكين، فلما انتبه الخدام
ورجال الدين من غفوتهم، كان هذا الشاب قد سقط في هوةٍ سحيقة وصفها بـ "بئر
ظلمات"، حتى أن الجميع يأسَ من عودته مرة أخرى إلى حظيرة الإيمان!
فقد
دعاه كهنة ولم يستجيب، وكَلَمّه خدامًا ولم يَلين، فماذا يَعوزه بعد، لا شئ. عفوًا،
فقد كان هناك شخصًا واحدًا لا يَزال يَسعى خلفه جاهدًا، فجميع هؤلاء تكلَّموا ولم
يتكلَّم هو من خلالهم، لأنه لو تكلَّم لسَمِعَ الشاب له، ولَو سألنا جميعاً لماذا؟،
لماذا يا ربُ لم تتكلَّم ولم تُبدِ ما انت فاعله؟، لأجاب قائلاً: مال] ولَكم، لم
تاتِ ساعتي بعد، نعم، فلكل شئ تحت السمواتِ وقت.
كيف
عاد الشاب إلى حضن الكنيسة وكيف كلمه الله وبأي صورة؟!
مرت
الأيام تباعًا والشاب (؟) يرفض أية مُحاولة من الكهنةِ والخُدام لزيارته، وشرَع
(بمعاونة بعض الإسلاميين) في عمل الإجراءات الخاصة بتغيير اسمه وديانته، كل ذلك
ونحن لا نَكُّف عن الطِلبَّة لأجله كل يوم أربعاء، حتى بعد أن فقدنا كل أمل في
عودته،أما هو (أي الشاب) فاعتراه شعورًا بالضيق الشديد بسبب التغيير الذي طرأ على
علاقته بوالديه ومُعاملَتِهم له بجفاء، الأمر الذي لم يحتمله، وعندما رفضت أمه ذات
يوم مُصافحته تأثرَ جدًا، وخاطبَ نفسِه قائلاً: حتى أمي تَرفض أن تُسلم علىّ!، ويروي
"الشاب" أنه بكى بكاءًا مُرًا، وكُلَما نَطَق بكلمة "أمي" كان
يَشعُر أن كيانه يهتز بقوةٍ، ولكن مع ذلك كله لم يُفكر في التراجع، فقد ترأىَ له
أنه سَلك طريقًا أُحاديّ الاتجاه وأنه لا
مجال للتراجع، وكانت الأصوات المُدَويَة لا تزال تتعالى في أذنيه: إنك تَترُك
الأهل والأحباب من أجل الله لتَنعَمَ بالجنةِ معه!
وشاء
الرب بتدبيره الحَسن أن يُصاب "الشاب" بنزلة بَرد شديدة رقد على إثرها في المنزل،
فاستثمر والداه الفُرصة وعرضوا عليه أن يُحضرا له أحد خُدام الكنيسة القبطية
ليتكلم معه من جديد، ولكي يكسب رضاء والديه فحسب، وبتحفظٍ شديد وافق على الفكرة،
وكانت الدعوىَ هذه المرة من نصيب أ.زكريا نظير الذي لم يترِدَّد لحظة في زيارته.
ذهب "زكريا" وكله ثقة أن الروح القدس سيَعمَل من خلالهِ على جذب هذه النفس، وفي هذا
اللقاء استطاع "زكريا" أن يُبرِّم مع الشاب اتفاقًا، وهو إن دَلَ على شئ إنما يَدُل
على رجاحة عقله وحُسن درايته، وحكمته التي كانت اللبِّنَة الأولى في جذب هذه النفس
للمسيح مرة أخرى.
سأله
"زكريا": كَم سنة مرَت عليك دون أن تسمع شيئًا عن المسيح؟، أجاب "الشاب":
خمسة عشر عامًا أو يزيد، فقال زكريا: إذَن ما رأيك لو تعطيني ساعة واحدة مُقابل كل
سنة من هذه السنين، فيكون مجموع جلساتنا خمسة عشر ساعة على مدار خمسة عشر يوما،
فإما أن تَقتَنعَ بكلامي فتَعود لمسيحك ومسيحيتك، أو تُقنعني أنت فأذهب معكَ في
نفس طريقك!
ولأن
الساعة التي آراد الله أن يُتَمِمَ فيها عمله كانت قد حانت، وافق "الشاب"
على الاقتراح وكله ثقة أنه لن يَنثني أمام مُحاولة إرجاعه عن طريق التي اختارها، وأيضًا
حتى لا يَفقِد صورته كبطل في أعين "إخوانه" الذين صَوروا له الموقف بُطوليًا،
فاستجمع شجاعته وصار يذهب إلى المسجد مع كل أذان ليصلى صلاة المسلمين.
وحان
موعد الجلسة الأولى في اليومِ التالي حَسب الاتفاق المُبّرِم بين "زكريا"
و"الشاب" في شقة جاره المسيحي، ولظروفٍ طارئة تأخرَ "زكريا"
عن الموعد المُحدد فاتصل مُعتذرًا يؤكد حضوره، وانتهز الجار تلك الفرصة وجعله يُشاهد
فيلمًا يُجسد حياة القديس التائب موسى الأسود، وحتى هذه اللحظة لم يكن الرب قد شاء
أن يرُد هذه النفس الشاردة، فكان "الشاب" ينظر في ساعته ويناجي نفسه
قائلاً : "إن أية المنافق ثلاث، إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن
خان"!، لكن مناجاته تلك قطعها صوت الخادم الأمين يطرق الباب.
وهكذا
مرَت أيامًا مُتتالية التقىَ خلالها خادم الرب الأمين بالشاب، وفي كل مرة كان
الحديث يُسفر عن لا شيء، نعم لا شيء، فالشاب لم يَلِن أمام كلمات العقل والمنطق،
ولا أمام الحُجَج التي قدمها "زكريا" واحدة تِلوَ الأخرى، حتى جاء اليوم
الخامس.
ذهب
"زكريا" ولم يَكُن يَدري ماذا سيقول في هذه الجلسة، فصلّى طالبًا تَدَخُل
العناية الإلهية، ثم هداه تفكيره إلى استخدام عِظة مُسجلة لأحد خدام الكلمة، وكان
موضوع العظة عن أبشالوم الذي شَرعَ في اعتصاب المُلك من داود أبيه، واثناء العظة
لم يطرأ أي تغيير على نفسية (الشاب) أو ملامحه.. وانتهت العظة، لكن لم ينتهي شريط
الكاسيت بأكمله، إذ كان يحوي في نهايته ترنيمة، لا ليست ترنيمة، إنها كلمات إلهية
صاغها الروح القُدس على لسان الواعظ.
فبينما كانت العظة تَقترِب من نهايتها، كانت
دقات قلب الخادم الأمين (أ/ زكريا) تزداد بقوةٍ، إذ كان يُدرك أنها الجلسة الأخيرة،
فلم يتبقى له ما يقوله، وكان يُناشد السماء أن تتدخل في هذه اللحظات الحَرِجَة
وقبل أن يفوت الأوان.
وقبل
أن ينقطعَ رجاءه سمع الله آنات قلبه ولمس صدق اشتياقه لتوبة هذه النفس، وكانت
بداية الترنيمة هي بداية جديدة لحياة ذلك "الشاب" مع الله، ونظر
الحاضرين فرأوا شخصًا أخر يَجهش أمامهم بالبكاء، بعد أن اخترقت كلمات الترنيمة أعماقه
وزَلزَلَت كيانه، وإليك -عزيزي القارئ- بعض كلماتها:
يا يسوع سامحني دي أخر مرة
في بُــعـدى عـنــــَّــك العـيـــــشة مُـــرة
ماكُنتش أعـرف ســـر صـلـــــيـبـَك
إنـــــك حَـــــــبـــيــــبـــي وأنــــا حَـــبـــيـــبــك
وارتسمت
الابتسامة من جديد على وجه خادم الرب الأمين، واختلطت مشاعر الفرح بالدموع، وفتح
ذراعيه ليرتمي فيهما "الشاب" معلنًا ميلاده من جديد.
عاد
ذلك "الشاب" وقد تَغَيَرَت حياته قلبًا وقالبًا، أما الخادم الأمين "أ.زكريا"
فلما أكمل خدمته -وهو بعد كهلًا مُفعَم بالحيوية- مضىَ إلى بيتهِ، ولَحِقَ بزُمرة
القديسين والمعترفين*.
حقًا،
إن الله الذي لمس قلوب أشَرَ الخُطاة، وحَوَّلَ الزُناة -بالتوبة- إلى بتوليين، لا
يزال يعمل، فيا ليته يعمل فينا نحن أيضًا مُعلنًا قوته الإلهية وعمله العجيب في
حياتنا، أمين.
* شاءت العناية
الإلهية أن يوَدعَ الخادم المُبارك زكريا نظير عبد المسيح، عالمنا الفاني إلى كورة
الأحياء، فى يوم 9 نوفمبر2002، إثر حادث انقلاب حافلة كانت تُقله مع عددٍ كبير من
خدام الكنيسة فى طريقهم لزيارة أديرة أسيوط، وقد كان مشهد جِنازته مهيبًا حضره
الآلاف من مُحبيه في مختلف أحياء القاهرة، ومن خارجها.