بقلم/ شريف رمزي
عن نفسي لا أميل إلى أي من الفريقين، ولا أجد نفسي
أهلاً لفحص أفكار الرجل بُغية الحُكم عليه، فلا هو -بحسب ظني- الكاتب
الفَذ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا هو صاحب نظرية جديدة في الإيمان المسيحي،
ولا كتاباته وحياً مُنزلاً تُعادل ما جاء بالأسفار المُقدسة أو ترقى على
ما وضعه الأباء الأوائل من تعاليم، لكن ذلك كله لا يُمكن أن يكون دافعاً
للتحيز ضِده أو لتكوين موقفاً مبدئياً من كتاباته دون دراستها بوعيٍ
وتجرُدٍ وحياد، فقد انقضت عهود المُصادرة على الأفكار، إنما الفكر يُرَد
عليه بفكرٍ، ومن المؤكد أن للأب متى المسكين اجتهاداته التي تستحق الإشادة،
لكن مَن مِن البشر لا يؤخذ منه ويُرَد عليه؟!.. مَن مِنهم مَعصوم؟!
الأمر الآخر اللافت للنظر أن جزءاً من الصراع الدائر بين هؤلاء المولَعين بالأب متى، وأولئك الحانقين عليه، يتعلق بدوافع شخصية بحتة لا علاقة لها بالأب متى نفسه ولا بفكره أو منهجه، إنما بشكل العلاقة التي تربط كل فريق مع الكنيسة القبطية ورجالاتها!.
البعض
يستمر في مُهاجمة الأب متى -حتى بعد موته- ويُشكِك في عقيدته، حتى وإن لم
يكُن قد قرأ يوماً سطراً من كتابٍ له، فقط لأنه سمع عن خلافات الأب متى مع
قيادات الكنيسة في عهودٍ مُختلفة، ولأنه استشف مما سمع أن البابا -وقتذاك-
لم يكُن راضياً عنه، وكأن البابا أو الكنيسة كانوا في حاجة لمن ينوب عنهم في إدانة وتجريح من شق عصا الطاعة!
وفي
المقابل يستخدم البعض مُغالاته في الاحتفاء بكتابات الأب متى والتظاهر
حيال فِكره ومنهجه بشدة الولَع، للنكاية في الكنيسة وفي القائمين على
إدارتها، وللتشكيك في إيمانها المُستقيم، وأكثر هؤلاء لا ينتمون أصلاً للكنيسة لا شكلاً ولا موضوعاً، فقط يُحاولون الاصطياد في الماء العَكِر.
وهذا ما يدفعني للتساؤل، هل أولئك الذين "يَتمَسَحون"
دوماً في منهج الأب متى المسكين، ويستشهدون بمواقفه وأقواله، ويُعدونه
صاحب فِكر مُتفرِد ونِبراس للتعليم، يسيرون على نفس دربه ويسلكون حسب فِكره
ومنهجه؟!
الأب متى اكتسب شُهرته من كونه راهباً مُتبتلاً وآباً
مُختبراً لطغمة من الرهبان، وقد بدأ حياته الرهبانية في مصر القديمة
مُتتلمذاً على يدي القمص مينا المتوحد (قداسة البابا كيرلس السادس)، لينطلق
بعدها إلى دير القديس الأنبا صموئيل المعترف، ومنه إلى دير السريان حيث
رُسم قِساً.
وبحسب تعبير الأب متى نفسه أمام البطريرك الأنبا يوساب الثاني حينما دعاه ليكلفه بمهام وكيل البطريركية بالإسكندرية، قال: "يا سيدنا أنا راهب في الكنيسة القبطية".
فهل
من فرصة ليُصارحنا أولئك المُتشدقون دوماً بولَعِهم بالأب متى، بفكرتهم عن
الرهبنة القبطية، ورأيهم في التبتُل ونذر الوحدة وتكريس الحياة بجملتها
لله في قلاية بدير في قلب الصحراء؟
الأب متى سُيم كاهناً بحسب طقس الكنيسة القبطية، فما رأي هؤلاء "الإخوة" في "سر الكهنوت المقدس"، ومدى إيمانهم بفاعليته؟، وماذا عن بقية الأسرار المقدسة؟
ما رأي هؤلاء الإخوة في مواظبة أبونا متى على سر الاعتراف؟ (كان القمص مينا المتوحد هو مرشده الروحي وأب اعترافه في بداية انطلاقه للوحدة).
وضع الأب متى مؤلفاً ضخماً تحت عنوان "الإفخارستيا والقداس"،
مُستنداً إلى الأُسس الأبائية والتاريخية لليتورجيات القبطية، فهل يُصدِّق
أولئك الإخوة على مضمونه، وهل يعترفون بفاعلية سر التناول واستحالة الخبز
وعصير الكرمة إلى جسد ودم المسيح، جسد حقيقي ودم حقيقي كقول الكتاب، بلا
تأويلٍ أو تفسير؟
وكتابه عن "المعمودية، الأصول الأولى
للمسيحية"، هل يدفع بأولئك الإخوة لتغيير مفاهيمهم عن المعمودية، والاعتراف
بها كسر مُقدس له فاعليته، ويحتاج لكاهن مُكرَس لإتمامه؟
وماذا
بشأن كتابات الأب متى عن "الصوم الأربعيني المقدس"، ومقالاته عن صوم
الميلاد، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس، وعيد الختان، وعيد عرس قانا الجليل،
التي جمعها في كتابه "أعياد الظهور الإلهي"، فهل تروق فكرة الصوم والأعياد
بحسب طقس الكنيسة القبطية لأولئك المُتشدقون بفِكر ومنهج الأب متى المسكين؟
وهل كتابه عن "الكنيسة الخالدة"، يَعكس نفس المفهوم لدى أولئك الإخوة عن
الكنيسة كمبنى وكمعنى، كاكليروس وطقوس وأسرار بدونها لا يكتمل البنيان
الروحي لجماعة المؤمنين؟
في عظاته وأحاديثه كثيراً ما روى الأب متى
عن أحلام ورؤى، فيذكر أنه في بداية انطلاقه للوحدة رأى السيد المسيح نفسه
في رؤيا وتحدث معه كما يُحدث المرء رفيقه، وفي هذه الرؤيا بارك قراره بسلوك
درب الرهبنة، وتكررت تلك الرؤى التي أسماها الأب متى بـ "الاستعلان
المُفاجيء"، فضلاً عن ترائي الشياطين له ومُحاربات الأرواح الشريرة، الأمر
الذي استدعى ظهور خاص لرئيس الملائكة ميخائيل الذي أنقذه من الشياطين ثم
طمأنه وأعطاه السلام وانصرف، وغير ذلك الكثير من الرؤى لقديسي وأباء البرية
القدامى، حسبما روى الأب متى نفسه.
فما رأي الإخوة في تلك الرؤى
والاستعلانات والأحلام، لأنني كثيراً ما سمعتهم يرفضونها وينكرونها حتى على
رجال الله القديسون، بوصفها درب من الاختلال النفسي والدروشة، ومنهم حتى من أنكر وعلى الملأ كل ظهورات والدة الإله في العصر الحديث!
وما
رأي إخوتنا في المطانيات (طقس في الكنيسة القبطية يعني السجود)؟ - (في
بداية رهبنته كان الأب متى يؤدي ٣٥٠ مطانية، وصلت إلى ٦٠٠ مطانية في مدة
يسيرة، والمطانيات كانت مَصحوبة بالتسبيح والتهليل للعذراء والقديسين، وكان
يصلي كل ليلة التسبحة السنوية ثم التسبحة الكيهكية على مدار السنة، وحينما
كان يتعب يجلس ليسبح ويهلل للعذراء).. فما رأي الإخوة في التسبيح للعذراء والقديسين؟
في
مُستهل خدمة الأب متى كوكيل لبطريركية الإسكندرية عام ١٩٥٤، قدمت له
آحكاماً بالطلاق أصدرها المجلس الملي السكندري (قبل أن يتحول هذا الاختصاص
لمحاكم الأحوال الشخصية عام ١٩٦١ مع إلغاء المجالس الملية)، ليعتمدها ويوقع
عليها، لكنه رفض ذلك بشكلٍ قاطع مُعتبراً أن تلك الآحكام مُخالفة لوصية
الإنجيل "لا طلاق إلا لعلة الزنا"، ولجأ إلى مُصالحة كل الحالات التي صدرت
فيها آحكاماً بالطلاق.
فهل أولئك المولَعين بفكر الأب متى "المُستنير"، يقبلون بنهجه حيال مسألة الطلاق، ورفضه التوسع في أسبابه؟
وحينما انتقل الأب متى لدير القديس أبو مقار وشَرع في إعادة تعميره، عثر
على رُفات يوحنا المعمدان وأليشع النبي، فأخرجها بإكرام يليق بالقديسين،
وكان ذلك في العام ١٩٧٦، فهل يحذوا أولئك الإخوة حذو الأب متى وأولاده في إكرامهم لرُفات القديسين والتبرُك بها؟
الخلاصة
تكمُن في تلك العبارة التي سجلها الأب متى في رسالة كتبها باللغة القبطية
عام ١٩٥٥، رداً على رسالة أخرى من العلامة الدكتور يسى عبد المسيح، قال:
"... إنني اؤمن وأعترف إلى النفس الأخير بإيمان آبائي أثناسيوس وكيرلس
وديسقوروس"، ومضمون تلك العبارة ذاتها رَدَده ملايين المرات في قداساته
وتسابيحه وعظاته، لكن الأهم أنه عاشها.. راهباً، كاهناً، قبطياً،
أرثوذكسياً.. يحيا إيمان الكنيسة ويُحيي طقوسها ويُكرم قديسيها ويتقوى
بأسرارها.. يبدأ يومه في اليوم الذي يسبقه بصلوات العشية ثم التسبحة ثم
باكر وصلوات الإجبية، فالقداس.
فمن من أولئك الإخوة المولَعين بالأب متى المسكين، يسير فعلاً على دربه، ويؤمن بمنهجه، ويُعلي من قيمه ومبادئه؟!