بقلم/ شريف رمزي
فى بلدان العالم المُتحضر يُعد تاريخ مصر وحضارتها القديمة عِلم مُستقل
بذاته، وتُعد آثار أجدادنا القُدماء أكثر ما يُثير شغف شعوب تلك البلدان،
ولاسيما علماء الآثار والحفريات الذين يعرفون قيمة تراثنا الحضاري أكثر مما
نعرف نحن "المصريون" عنه!
وإذا كان الحال كذلك بالنسبة لتراث مصر
الإنساني بشكلٍ عام، فبالأكثر ما يتعلق منه بالحقبة القبطية التي امتدت
لقرون قبل الفتح العربي، وتُعد جزءاً أصيلاً من تاريخ مصر وتراثها الحضاري
يحق لكل مصري أن يُفاخر به ويعمل على حفظه من التلف ومن آيدي العابثين.
لكن
المؤسف أن الإهمال أصبح هو السمة الغالبة والعنصر المتحكم في كل ما يتعلق
بالتراث والتاريخ القبطي، وكأن المقصود هو محو تلك الحقبة من الوجدان فلا
يبقى منها حتى آثراً بعد عين، كما تم محوها عمداً من المناهج الدراسية فى
المدارس والجامعات!
قبل أيام قليلة تباركت بزيارة دير القديس الأنبا
مقار (أبو مقار) بصحراء وادي النطرون، وتقابلت مع الآب يوحنا المقاري أحد
شيوخ الدير، ومن جيل الرهبان الأوائل الذين رافقوا المتنيح القمص متى
المسكين فى مسيرة امتدت لقرابة نصف قرن شهدت خلاله تلك المنطقة نهضة
رهبانية وعمرانية وحركة فكرية وتنويرية كانت مثار إعجاب الزائرين من الشرق
والغرب.
جلست إلى جوار الراهب الشيخ، أنصت إليه وأنهل من حكمته
المُتدفقة كمياه عذبة، وبداخلي تتلاطم الأفكار كالأمواج فى بحرٍ هادر.. كيف
أمكن لنفرٍ من الناس أن يستوطنوا فى تلك الأرض منذ أن كانت بقعة نائية فى
صحراءٍ موحشة مُعتزلين صخب الحياة وبريقها، مُتخلين عن مباهي الدنيا
ومتاعها، لحساب الآخرة البعيدة كبُعد الأرض عن السماء؟!
كيف أمكنهم
أن يُعيدوا الحياة للأرض الممات، وأن يستصلحوا فى الصخر فتخرج منه ثمرات
طيبات، وكيف اخضرَّت اليابسة واكتسى ظاهرها وباطنها بالخصب والنماء؟!
كيف أبهروا العالم وأذهلوا عقول الباحثين وأضاءوا المسكونة بفكرهم المُستنير؟!
ولم
يقطع تأملاتي وتساؤلاتي سوى نبرة آسى فى صوت الراهب الشيخ، استرسل بعدها
فى الحديث عن التهديد الذي يواجهه الرهبان بحرق آراضي الدير، وتهديد حياة
الرهبان أنفسهم، من جانب عصابات سرقة الأراضى التي استولت على أكثر من 500
فدان من أراضي المنطقة المُحيطة بالدير والتي تحوي آثاراً لمنشوبيات وقلالي
قبطية (سكن الرهبان) وأطلال آديرة يعود تاريخها للقرن الرابع الميلادي،
والتي تخضع فعلياً لإشراف وزارة الآثار ولا يجوز التعامل عليها أو التصرف
فيها، وبحوزة الدير كافة المستندات التي تؤكد أثرية المنطقة المحيطة بالدير
وأهميتها كجزء من التراث الإنساني العالمي ومن حضارة مصر وتاريخها، فضلاً
عن قرار صادر من رئيس الوزراء مدعوماً بموافقة من وزارتي الدفاع والآثار
بتمكين الدير من بناء سور لحماية الأرض.
وبرغم ذلك كله يستمر
الاعتداء على الأرض ويُستباح التاريخ على مرأى ومسمع من أولي الأمر، ولا
يحرك مسئول ساكناً من أجل إزالة التعديات!
والمؤكد هنا أن استباحة التاريخ والتراث القبطي، هو جزء من استباحة تاريخ مصر وحضارتها الممتدة لآلاف السنين.
والمؤكد
أيضاً أن المسئول الذي يغفل عن جريمة كهذه لا يستحق أن يجلس للحظة على
كرسيه، بل إن مُحاكمته واجبة جزاءاً للإهمال والتقصير، ذلك إن لم يكن غض
الطرف مُتعمداً لدواعي التعصب البغيض الذي لم نعد نعرف لحدوده أولاً ولا
أخر.